حـمـزة الخـنـسـا - الأخـبـار
www.sadawilaya.com
طفت على سطح الحرب العدوانية التي تشنها إسرائيل على لبنان، مشاهدات كثيرة تعكس غياب الروح الوطنية لدى شرائح من اللبنانيين.
ما جعلهم - لأسباب كثيرة - يعلنون الاصطفاف السافر خلف العدو، ودعمه وتأييده في قتل لبنانيين آخرين وهدم قراهم وممتلكاتهم.
هذه الشرائح، وإنْ كانت بموقفها هذا منسجمة مع سلوك أحزاب سياسية وكيانات طائفية ومذهبية ارتبطت تاريخياً بشبكة المشاريع الغربية.
إلا أنها، وفي سلوكها دروب الرهان على آلة القتل الإسرائيلية لتحقيق تفوق سياسي مُتخيَّل، داست على مفهومَي السيادة والمواطنة.
وهما أكثر مفهومين ادّعت احتكارها لهما وحصرية انتمائهما لها على مرّ تاريخ لبنان منذ إنشائه حتى اليوم.
يفتح هذا الأمر باب التساؤلات عن ماهية «الدولة الحقيقية» التي ينادون بها، وهي تساؤلات تستحق أن يُفتح النقاش حولها.
خصوصاً أن المطالبين بها ربطوا تحقيقها بشرط يكاد يكون شبه وحيد ويتلخّص بسحق جزء أصيل ومؤسس للكيان اللبناني بيد كيان لا يخفي مشروعه بجعل لبنان جزءاً من دولته الممتدة من الفرات إلى النيل.
على أن هذا الشرط، ورغم جذريّته، قد حصر هؤلاء آلية تنفيذه في انتخاب رئيس للجمهورية والتمديد لقائد الجيش، أنهما الباب الوحيد للعبور إلى الدولة الحلم.
وعند التمحيص في السلوك المتوخى منه أن يؤدي إلى تحقيق هذا «المطلب المصيري»...
يظهر كثير من «الخطوات الأولية» التي تكشف عن هشاشة في البناء التنظيري.
وبالتالي السطحية في الأسباب الموجبة للجعل من هذه المطالب خارطة طريق، أولاً، وبرنامجاً سياسياً تالياً، يشكلان عناوين العمل السياسي - وربما الشعبي - في مرحلة ما بعد الحرب.
فمثلاً، تقوم الفكرة الأساسية لـ«المشروع التحرري» الذي يتبناه هؤلاء، على كذبة الاحتلال الإيراني.
وفضلاً عن أنها كذبة، فهي فكرة مستَهلكة ووصفة جرّبتها الولايات المتحدة الأميركية والسعودية في العراق بعد احتلاله في عام 2003، وفي الدول التي مرّ عليها إعصار «الربيع العربي» بدءاً من أواخر عام 2010.
وكانت قد انتقلت إلى لبنان بعد انتفاء تأثير وصفة «الاحتلال السوري» بعد عام 2005.
ومع الأخذ في الحسبان أن «نغمة» الاحتلال الإيراني يراد منها اتهام حزب الله والمقاومة في لبنان بتنفيذ مشروع إيراني بدفاعهم عن لبنان.
إلا أن وقائع الحياة السياسية اليومية في لبنان تقول إن السفراء الأميركيين المتعاقبين، وفرق عملهم الديبلوماسية و«الأهلية»...
هم من يتحكم في مفاصل الحكم ويحدد للحكومة اللبنانية والكثير من الوزراء والقضاة والإعلاميين، وحتى البلديات، برنامج عملهم وما هو المسموح والممنوع والـ«ما بين بين».
لا يحتاج الأمر إلى كثير من الاستدلالات لإثبات الأمر، لكن لا ضير في سرد واقعة حصلت أخيراً خلال اللقاء الذي جمع كبير مستشاري السيد علي الخامنئي، علي لاريجاني مع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي.
الذي رفض عروضاً إيرانية بالجملة تتعلق باحتياجات النازحين درءاً لرد الفعل الأميركي.
وتأتي في المرتبة الثانية كذبة «تحرير لبنان» من الاحتلال الإيراني، والتي بدأت شخصيات ومنابر ومنصات عدة الإعلان عن تحققها بفعل العدوان الإسرائيلي.
هذه السردية غير بعيدة عن أجواء حزب القوات اللبنانية، التي اعتبر رئيسها سمير جعجع، في آخر إطلالة متلفزة له، أن العدوان الإسرائيلي على الضاحية والجنوب والبقاع هو فرصة لتحصيل مكتسبات سياسية.
وإنْ سمّاها تجميلاً «العودة إلى المسار الصحيح»، رغم أن جميع اللبنانيين يعرفون أن المسار الصحيح بالنسبة إلى جعجع، تاريخياً، هو الخيار الإسرائيلي.
في المناسبة، هنا يجب أن يُشكر جعجع على وضوحه، كما عليه ألّا يستنكر لاحقاً التداعيات السلبية لانتهاء الحرب بخلاف رغبته، على مستقبله السياسي في البلد.
ففي لبنان، من السهل على أيّ كان تعبئة الوقت الفاصل بين بداية العدوان ونهايته بأفعال ومواقف وشروط وسقوف.
لكن، يبقى للأفعال والمواقف والشروط والسقوف التي تفرض وقف العدوان، الأثر الأكثر دواماً وتأثيراً بعده.
على أي حال، لا يفيد الغوص كثيراً في تفنيد سلوك المراهنين على إسرائيل لاستنباط الأدلة على أنهم قد وضعوا مجدداً كل بيضهم في سلة تل أبيب.
ما يفيد أكثر هو محاولة وضع أسس ومحددات واقعية لإدارة العلاقات بين المكونات اللبنانية لا تقوم على التكاذب الوطني، ولا على النفاق الاجتماعي...
بل من الجيد الانطلاق من أرضيات صلبة تشكل مشتركات تجمعهم، ولو أنها أصبحت نادرة.
إذ حتى «نهائية الكيان» لا يبدو أنها ما زالت محل إجماع، فعدد من الذين كانوا يعتبرون أنفسهم أم الكيان وأباه...
صاروا يدعون إلى الطلاق الوطني، وبدأت أحلام الانفصال تدغدغ مَن كانوا منهم يدّعون نبذ التطرف.
مهما يكن من أمر، فإذا كان من نقطة انطلاق تصلح لأن تكون أرضية صلبة يمكن البناء عليها لمرحلة بناء «الدولة الحلم» حقيقةً...
فالأولى أن تكون بلورة مفهوم أمن قومي واضح لتلك الدولة بما يتصل به من متطلبات أساسية كالتنمية، ومن تعريف واضح للعدو والصديق، والجيران في حالة لبنان.
ويكون منسجماً مع مفهوم المصلحة القومية كمحدد لتقرير السياسة الخارجية بهدف تعزيز المصالح القومية.
والحفاظ على قيم الدولة وصيانة استقلالها وكيانها وحرياتها في علاقاتها الخارجية ودعم توجهاتها الاقتصادية.
وعلى هذا الأساس، يمكن إنجاز الإستراتيجية الدفاعية لهذه الدولة.
إذ فشلت القوى السياسية مراراً في السابق في التوصّل إلى اتفاق حولها، لأنها كانت في الأصل تنطلق نحوها من دون الاتفاق على ماهية الأمن القومي والمصالح القومية، كمن يضع العربة أمام الحصان.
وهنا، سيكون الجميع أمام استحقاق كاشف لحقيقة النوايا من جهة، ولحقيقة الشعارات السيادية والوطنية من جهة أخرى.
وسيكونون أيضاً أمام استحقاق الإجابة الشفافة عن أسئلة تتعلق بقدرة كل منهم على التحرّر من التبعية للمشاريع الخارجية.
فمثلاً، هل سيتم الاتفاق على عدوانية إسرائيل وأطماعها تجاه لبنان؟ أم أن البعض سيصر على اعتبارها «جارة» من منطلق تبعيته لمشروع التطبيع الذي تقوده السعودية في المنطقة؟
وهذا سؤال، جوابه محطة جوهرية في الانطلاق نحو صياغة إستراتيجية دفاعية من وحي التعريف المتفق عليه للأمن القومي والمصالح القومية اللبنانية.
أم إن البعض سيعتبر أن الأمن القومي هو السلام، وبالتالي نعود بشكل غير مباشر لنظرية قوة لبنان في ضعفه؟
بصرف النظر عن الامتحان الكبير المتعلق بسوريا والعلاقة معها، وعن الديموقراطية التوافقية والمحاصصاتية، وعن الأعداد والنسب وقانون الانتخابات وغيرها من القضايا التي تثير مخاوف البعض اليوم...
يبقى الذهاب إلى إستراتيجية دفاعية بشرطها وشروطها، وتعزيز قدرة الجيش اللبناني ليصبح قادراً بالعديد والعتاد...
لا بالأغاني والفلكلور الوطني، على حماية كل اللبنانيين من الحدود إلى الحدود، بقوته لا بعلاقاته...
الامتحان الحقيقي لكل أولئك الذين أصبحت السيادة لعقاً على ألسنتهم، يلوكونها كلما هبّت المشاريع الأميركية - الإسرائيلية على لبنان.
فيما كانوا في الماضي القريب أول من طعنها وحارب الجيش، أيضاً عندما هبّت المشاريع الأميركية - الإسرائيلية على لبنان.
بالضبط كما استخدمت السعودية القومية العربية فزّاعة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي لمحاربة حركات التحرر العربية، واعتنقتها اليوم ديناً، لمحاربة حركات المقاومة التي تتهمها بأنها إيرانية فارسية.
قالها الشهيد السيد حسن نصرالله مراراً، إن حزب الله ليس فئة تهوى القتال، لكنه اضطر إلى القتال لتعويض إهمال الدولة لواجباتها بحماية الجنوب وأهله من الاعتداءات الإسرائيلية.
وقدّم على طاولة الحوار في عام 2006 إستراتيجية دفاعية متكاملة لم تلقَ تجاوباً من أحد، ولم يقدّم أي من الأطراف إستراتيجيته الدفاعية...
بل كانت إستراتيجيتهم الدفاعية الوحيدة هي مطالبة المقاومة بإلقاء سلاحها.
اليوم، ورغم كل ما حصل ويحصل جرّاء العدوان، سيعود حزب الله إلى ثوابته المتعلقة بالمقاومة ونظرته إلى إسرائيل ووجوب قتالها وإعداد العدة لذلك.
وإلى أن يصبح الجميع مستعدين للبحث الجدّي في الإستراتيجية الدفاعية، التي تحصر مهمة الدفاع عن لبنان وأمنه القومي ومصالحه القومية، بيد الجيش...
سيعود حزب الله منذ الدقيقة الأولى لإعلان وقف العدوان (مهما طال أو قصُر) إلى ترميم قدراته وتحديث خططه والحرص على أن تكون المقاومة على أعلى جهوزية للدفاع عن لبنان ضد الأطماع الإسرائيلية...
بصرف النظر عن كل الضجيج الحاصل في الإعلام وعلى الفضاء الافتراضي.